كانت الرحلة في طلب العلم أمرًا محببًا لمن أراد أن يتلقى العلم من ينابيعه، ومن ثَمَّ كان مكحول الدمشقي -وهو تابعي جليل- يقول مفتخرًا: "طفتُ الأرض كلها في طلب العلم"[1].
ولذلك صار مكحول رحمه الله من أكابر علماء المسلمين، وهو ما جعل الإمام الكبير محمد بن شهاب الزُّهري يقول في حقه: "العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالحجاز، والحسن البصري بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام"[2].
أبو حاتم الرازي ورحلة في طلب العلم:
وقد كان هؤلاء العلماء يُعانون أشد المعاناة في مرحلة طلبهم للعلم، فقد ذكر ابن أبي حاتم الرازي في تقدمة كتابه "الجرح والتعديل".
ما لاقاه والده أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي[3] في طلبه للعلم، فقد نقل عنه أنه قال: "أول سنة خرجتُ في طلب الحديث أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ[4]، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته.
وأمَّا ما سرتُ أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مراتٍ كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس.
ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيء من حديث أبي اليمان فسمعتُ.
ثم خرجت من حمص إلى بيْسان، ومن بيسان إلى الرَّقة، ومن الرَّقة ركبتُ الفرات إلى بغداد، وخرجتُ قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيًا.
كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين، خرجت من الرّي سنة ثلاث عشرة ومائتين...، ورجعت سنة إحدى وعشرين ومائتين، وخرجتُ المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعتُ سنة خمس وأربعين، أقمت ثلاث سنين"[5].
علماء الأندلس ورحلات في طلب العلم:
وقد كانت الرحلة عند علماء الأندلس أمرًا مهمًّا جدًّا، وعاملًا من عوامل أفضلية بعض العلماء على بعض، ولذلك قال المقري[6] عن أبي عمرو الداني[7] إنه "من الراحلين من الأندلس إلى المشرق.
وهو الأحق بالتقديم والسبق، الشهير عند أهل الغرب والشرق، الحافظ المقرئ الإمام الرباني، ولد سنة 371هـ، وابتدأ بطلب العلم سنة 387هـ، ورحل إلى المشرق سنة 397هـ.
فمكث بالقيروان أربعة أشهر، ودخل مصر في شوَّالها، فمكث بها سنةً، وحجَّ، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399هـ"[8].
مما سبق نستيقن أن هذه الحضارة قد ربَّتْ أبناءها على ضرورة طلب العلم، مهما كان مصدره، ولذلك وجدنا آلافًا من أبناء هذه الحضارة كالنحل في نشاطه، لا يتوقف عند حدود قُطر بعينه، أو شيخ محدد.
وهذا ما لم نجده عند أبناء أي حضارة أخرى؛ إذ كان العلم قضية عامة عند المسلمين، وهو ما ميزهم عن غيرهم طيلة قرون عِدَّة.
-------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن كثير: البداية والنهاية 9/334.
[2] المصدر السابق 9/334.
[3] أبو حاتم الرازي: هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران (195- 277هـ/ 810- 890م)، ولد بالري وتوفي ببغداد، له "طبقات التابعين"، و"تفسير القرآن العظيم"، و"أعلام النبوة". انظر: الزركلي: الأعلام 6/27.
[4] يقدر الفرسخ بـ 4.8 كم.
[5] أبو حاتم الرازي: الجرح والتعديل 1/359، 340.
[6] المقري: هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر القرشي التلمساني (ت 758هـ/ 1357م)، صاحب كتاب نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، ولد ونشأ في تلمسان، وتوفي بمصر. انظر: الزركلي: الأعلام 7/37.
[7] أبو عمرو الداني: هو عثمان بن سعيد بن عثمان، ويقال له ابن الصيرفي (371- 444هـ/ 981- 1053م)، من موالي بني أمية، أحد حفاظ الحديث، ومن الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 20/20، والزركلي: الأعلام 4/206.
[8] المقري: نفح الطيب 2/135.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام